فصل: تفسير الآية رقم (71):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (70):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)}
أي لم تكفرون بما يتلى عليكم من آيات القرآن وأنتم تعلمون ما يدل على صحتها ووجوب الإقرار بها من التوراة والإنجيل، وقيل: المراد: لم تكفرون بما في كتبكم من الآيات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم وأنتم تشهدون الحجج الدالة على ذلك، أو: لم تكفرون بما في كتبكم من أن الدين عند الله الإسلام وأنتم تشاهدون ذلك، أو: لم تكفرون بالحجج الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم وأنتم تشهدون أن ظهور المعجزة يدل على صدق مدعي الرسالة أو أنتم تشهدون إذا خلوتم بصحة دين الإسلام، أو: لم تكفرون بآيات الله جميعًا وأنتم تعلمون حقيتها بلا شبهة نزلة علم المشاهدة.

.تفسير الآية رقم (71):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)}
{ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل} أي تسترونه به، أو تخلطونه به، والباء صلة، وفي المراد أقوال: أحدها: أن المراد تحريفهم التوراة والإنجيل قاله الحسن وابن زيد وثانيها: أن المراد إظهارهم الإسلام وإبطانهم النفاق قاله ابن عباس وقتادة وثالثها: أن المراد الإيمان وسى وعيسى والكفر حمد عليهم الصلاة والسلام، ورابعها أن المراد ما يعلمونه في قلوبهم من حقية رسالته صلى الله عليه وسلم وما يظهرونه من تكذيبه، عن أبي علي وأبي مسلم، وقرئ {تَلْبِسُونَ} بالتشديد وهو عنى المخفف، وقرأ يحيى بن وثاب {تَلْبِسُونَ} وهو من لبست الثوب، والباء عنى مع، والمراد من اللبس الاتصاف بالشيء، والتلبس به وقد جاء ذلك فيما رواه البخاري في الصحيح عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» {وَتَكْتُمُونَ الحق} أي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما وجدتموه في كتبكم من نعته والبشارة به {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه حق، وقيل: تعلمون الأمور التي يصح بها التكليف وليس بشيء.

.تفسير الآية رقم (72):

{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)}
{وَدَّت طَّائِفَةٌ} أي جماعة وسميت بها لأنه يسوى بها حلقة يطاف حولها {مّنْ أَهْلِ الكتاب} أي اليهود لبعضهم {ءامَنُواْ} أي أظهروا الإيمان {بالذي أُنزِلَ عَلَى الذين ءامَنُواْ} وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه {وَجْهَ النهار} أي أوله كما في قول الربيع بن زياد:
من كان مسرورًا بمقتل مالك ** فليأت نسوتنا بوجه نهار

وسمي وجهًا لأنه أول ما يواجهك منه، وقيل: لأنه كالوجه في أنه أعلاه وأشرف ما فيه؛ وذكر الثعالبي أنه في ذلك استعارة معروفة {واكفروا ءاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} بسبب هذا الفعل عن اعتقادهم حقية ما أنزل عليهم قال الحسن والسدي تواطأ اثنا عشر رجلًا من أحبار يهود خبير، وقرى عرينة، وقال بعضهم لبعض: أدخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد واكفروا آخر النهار وقولوا إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدًا ليس بذاك وظهر لنا كذبه وبطلان دينه فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم فقالوا: إنهم أهل الكتاب وهم أعلم به فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، وقال مجاهد ومقاتل والكلبي: كان هذا في شأن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فقال كعب بن الأشرف لأصحابه آمنوا بالذي أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها أول النهار وارجعوا إلى قبلتكم آخره لعلهم يشكون، والتعبير بما أنزل بناءًا على ما يقوله المؤمنون وإلا فهم يكذبون ولا يصدقون أن الله تعالى أنزل شيئًا على المؤمنين، وظاهر الآية يدل على وقوع أمر بعضهم لبعض أن يقولوا ذلك، وأما امتثال الأمر من المأمور فمسكوت عن بيان وقوعه وعدمه، وعن بعضهم أن في الأخبار ما يدل على وقوعه.

.تفسير الآية رقم (73):

{وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)}
{وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} في نظم الآية ومعناها أوجه لخصها الشهاب من كلام بعض المحققين، أحدها: أن التقدير: ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهم المسلمون أوتوا كتابًا سماويًا كالتوراة ونبيًا مرسلًا كموسى وبأن يحاجوكم ويغلبوكم بالحجة يوم القيامة إلا لاتباعكم، وحاصله أنهم نهوهم عن إظهار هذين الأمرين للمسلمين لئلا يزدادوا تصلبًا ولمشركي العرب لئلا يبعثهم على الإسلام وأتى بأو على وزان {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] وهو أبلغ. والحمل على معنى حتى صحيح مرجوح، وأتى بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} معترضًا بين الفعل ومتعلقه، وفائدة الاعتراض الإشارة إلى أن كيدهم غير ضار لمن لطف الله تعالى به بالدخول في الإسلام، أو زيادة التصلب فيه. ويفيد أيضًا أن الهدى هداه فهو الذي يتولى ظهوره {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم والله مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف: 8] فالمراد بالإيمان إظهاره كما ذكره الزمخشري، أو الإقرار اللساني كما ذكره الواحدي، والمراد من التابعين المتصلب منهم، وإلا وقع ما فروا منه، وثانيها: أن المراد: ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر الذي أتيتم به وجه النهار إلا لمن كان تابعًا لدينكم أولًا وهم الذين أسلموا منهم أي لأجل رجوعهم لأنه كان عندهم أهم وأوقع، وهم فيه أرغب وأطمع، وعند هذا تم الكلام، ثم قيل: {ءانٍ الهدى هُدَى الله} أي فمن يهدي الله فلا مضل له ويكون قوله تعالى: {أَن يؤتى} إلخ على هذا معللًا لمحذوف أي لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولما يتصل به من الغلبة بالحجة يوم القيامة دبرتم ما دبتم. وحاصله أن داعيكم إليه ليس إلا الحسد، وإنما أتى بأو تنبيهًا على استقلال كل من الأمرين في غيظهم وحملهم على الحسد حتى دبروا ما دبروا ولو أتى بالواو لم تقع هذا الموقع للعلم بلزوم الثاني للأول لأنه إذا كان ما أوتوا حقًا غلبوا يوم القيامة مخالفهم لا محالة فلم يكن فيه فائدة زائدة، وأما أو فتشعر بأن كلًا مستقل في الباعثية على الحسد والاحتشاد في التدبير، والحمل على معنى حتى ليس له موقع يروع السامع وإن كان وجهًا ظاهرًا.
ويؤيد هذا الوجه قراءة ابن كثير أأن يؤتى بزيادة همزة الاستفهام للدلالة على انقطاعه عن الفعل واستقلاله بالإنكار، وفيه تقييد الإيمان بالصادر أول النهار بقرينة إن الكلام فيه، وتخصيص من تبع سلميهم بقرينة المضي فإن غيرهم متبع دينهم الآن أيضًا، وعن الزمخشري أن {أَن يؤتى} إلخ من جملة المقول كأنه قيل: قل لهم هذين القولين ومعناه أكد عليهم أن الهدى ما فعل الله تعالى من إيتاء الكتاب غيركم، وأنكر عليهم أن يمتعضوا من أن يؤتى أحد مثله كأنه قيل إن الهدى هدى الله، وقل لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ما قلتم وكدتم ما كدتم، وثالثها: أن يقرر ولا تؤمنوا على ما قرر عليه الثاني، ويجعل {أَن يؤتى} خبر {ءانٍ} و{هُدَى الله} بدل من اسمها وأو عنى حتى على أنها غاية سببية، وحينئذ لا ينبغي أن يخص عند ربكم بيوم القيامة بل بالمحاجة الحقة كما أشير إليه في البقرة، ولو حملت على العطف لم يلتئم الكلام، ورابعها: أن يكون {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن} إلخ باقيًا على إطلاقه أي واكفروا آخره واستمروا على ما كنتم فيه من اليهودية ولا تقروا لأحد إلا لمن هو على دينكم وهو من جملة مقول الطائفة ويكون {قُلْ إِنَّ الهدى} إلخ أمرًا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك في جوابهم، على معنى: قل إن الهدى هدى الله فلا تنكروا أن يؤتى حتى تحاجوا؛ وقرينة الإضمار إن {وَلاَ تُؤْمِنُواْ} إلخ تقرير على اليهودية وأنه لا دين يساويها فإذا أمر صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم علم أن ما أنكروه غير منكر وأنه كائن، وحمل أو على معناها الأصلي حينئذٍ أيضًا حسن لأنه تأييد للإيتاء وتعريض بأن من أوتي مثل ما أوتوا هم الغالبون، وقرئ إن يؤتى بكسر همزة إن على أنها نافية أي قولوا لهم ما يؤتى وهو خطاب لمن أسلم منهم رجاء العود، والمعنى لا إيتاء ولا محاجة فأو عنى حتى، وقدر قولوا توضيحًا وبيانًا لأنه ليس استئنافًا تعليلًا، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الهدى} إلخ اعتراض ذكر قبل أن يتم كلامهم للاهتمام ببيان فساد ما ذهبوا إليه؛ وأرجح الأوجه الثاني لتأيده بقراءة ابن كثير وأنه أفيد من الأول وأقل تكلفًا من باقي الأوجه، وأقرب إلى المساق انتهى.
وأقول: ما ذكره في الوجه الرابع من تقرير فلا تنكروا أن يؤتى إلخ هو قول قتادة والربيع والجبائي لكنهم لم يجعلوا أو عنى حتى وهو أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما وكذا القول بإبدال أن يؤتى من الهدى قول السدي وابن جريج إلا أنهم قدروا لا بين أن ويؤتى، واعترض عليهما أبو العباس المبرد بأن لا ليست مما تحذف هاهنا، والتزم تقدير مضاف شاع تقديره في أمثال ذلك وهو كراهة، والمعنى إن الهدى كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أي ممن خالف دين الإسلام لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار فهدى الله تعالى بعيد من غير المؤمنين، ولا يخفى أنه معنى متوعر، وليس بشيء، ومثله ما قاله قوم من أن {أَن يؤتى} إلخ تفسير للهدى، وأن المؤتى هو الشرع وأن {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} عطف على {أُوتِيتُمْ}، وأن ما يحاج به العقل وأن تقدير الكلام أن هدى الله تعالى ما شرع أو ما عهد به في العقل، ومن الناس من جعل الكلام من أول الآية إلى آخرها من الله تعالى خطابًا للمؤمنين قال: والتقدير ولا تؤمنوا أيها المؤمنون إلا لمن تبع دينكم وهو دين الإسلام ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين فلا نبي بعد نبيكم عليه الصلاة والسلام ولا شريعة بعد شريعتكم إلى يوم القيامة ولا تصدقوا بأن يكون لأحد حجة عليكم عند ربكم لأن دينكم خير الأديان، وجعل {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} اعتراضًا للتأكيد وتعجيل المسرة ولا يخفى ما فيه واختيار البعض له والاستدلال عليه بما قاله الضحاك إن اليهود قالوا: إنا نحج عند ربنا من خالفنا في ديننا فبين الله تعالى لهم أنهم هم المدحضون المغلوبون وأن المؤمنين هم الغالبون ليس بشيء لأن هذا البيان لا يتعين فيه هذا الحمل كما لا يخفى على ذي قلب سليم، والضمير المرفوع من {يُحَاجُّوكُمْ} على كل تقدير عائد إلى {أَحَدٌ} لأنه في معنى الجمع إذ المراد به غير أتباعهم.
واستشكل ابن المنير قطع {أَن يؤتى} عن {لاَ تُؤْمِنُواْ} على ما في بعض الأوجه السابقة بأنه يلزم وقوع {أحد} في الواجب لأن الاستفهام هنا إنكار، واستفهام الإنكار في مثله إثبات إذ حاصله أنه أنكر عليهم ووبخهم على ما وقع منهم وهو إخفاء الإيمان بأن النبوّة لا تخص بني إسرائيل لأجل العلتين المذكورتين فهو إثبات محقق، ثم قال: ويمكن أن يقال: روعيت صيغة الاستفهام وإن لم يكن المراد حقيقته فحسن دخول {أحد} في سياقه لذلك وفيه تأمل فتأمل وتدبر، فقد قال الواحدي: إن هذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبه تفسيرًا {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله} رد وإبطال لما زعموه بأوضح حجة، والمراد من الفضل الإسلام قاله ابن جريج وقال غيره: النبوة، وقيل: الحجج التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وقيل: نعم الدين والدنيا ويدخل فيه ما يناسب المقام دخولًا أوليًا {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} أي من عباده {والله واسع} رحمة، وقيل: واسع القدرة يفعل ما يشاء {عَلِيمٌ} صالح العباد، وقيل: يعلم حيث يجعل رسالته.

.تفسير الآية رقم (74):

{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)}
{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء} قال الحسن: هي النبوة، وقال ابن جريج: الإسلام والقرآن، وقال ابن عباس هو وكثرة الذكر لله تعالى، والباء داخلة على المقصور وتدخل على المقصور عليه وقد نظم ذلك بعضهم فقال:
والباء بعد الاختصاص يكثر ** دخولها على الذي قد قصروا

وعكسه مستعمل وجيد ** ذكره الحبر الإمام السيد

{والله ذُو الفضل العظيم} قال ابن جبير: يعني الوافر.

.تفسير الآية رقم (75):

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}
{وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ} شروع في بيان نوع آخر من معايبهم، و{تَأْمَنْهُ} من أمنته عنى ائتمنته والباء قيل: عنى على، وقيل: عنى في أي في حفظ قنطار والقنطار تقدم قنطار من الكلام فيه يروى أن عبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفًا ومائتي أوقية ذهبًا فأداه إليه. {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} كفنحاص بن عازوراء فإنه يروى أنه استودعه قرشي آخر دينارًا فجحده، وقيل: المأمون على الكثير النصارى إذ الغالب فيهم الأمانة، والخائنون في القليل اليهود إذ الغالب عليهم الخيانة، وروي هذا عن عكرمة، والدينار لفظ أعجمي وياؤه بدل عن نون وأصله دنار فأبدل أول المثلين ياءًا لوقوعه بعد كسرة، ويدل على الأصل جمعه على دنانير فإن الجمع يردّ الشيء إلى أصله، وهو في المشهور أربعة وعشرون قيراطًا والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير فمجموعه اثنتان وسبعون حبة قالوا: ولم يختلف جاهلية ولا إسلامًا، ومن الغريب ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مالك بن دينار أنه قال: إنما سمي الدينار دينارًا لأنه دين ونار ومعناه أن من أخذه بحقه فهو دينه، ومن أخذه بغير حقه فله النار، ولعله إبداء إشارة من هذا اللفظ لا أنه في نفس الأمر كذلك كما لا يخفى على مالك درهم من عقل فضلًا عن مالك دينار وقرئ {يُؤَدّهِ} بكسر الهاء مع وصلها بياء في اللفظ وبالكسر من غير ياء، وبالإسكان إجراءًا للوصل مجرى الوقف وبضم الهاء ووصلها بواو في اللفظ وبضمها من غير واو.
{إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} استثناء من أعم الأحوال أو الأوقات أي: لا يؤده إليك في حال من الأحوال، أو في وقت من الأوقات إلا في حال دوام قيامك، أو في وقت دوام قيامك، والقيام مجاز عن المبالغة في المطالبة، وفسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالإلحاح، والسدي بالملازمة والاجتماع معه، والحسن بالملازمة والتقاضي، والجمهور على ضم دال دمت فهو عندهم كقلت، وقرئ بكسر الدال فهو حينئذٍ على وزان خفت وهو لغة، والمضارع على اللغة الأولى: يدوم كيقوم، وعلى الثانية: يدام كيخاف {ذلك} أي ترك الأداء المدلول عليه بقوله سبحانه وتعالى: {لاَّ يُؤَدِّهِ}. {بِأَنَّهُمْ قَالُواْ} ضمير الجمع عائد على {مِنْ} في {مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ} وجمع حملًا على المعنى والباء للسببية أي بسبب قولهم {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الاميين سَبِيلٌ} أي ليس علينا فيما أصبناه من أموال العرب عتاب وذم. أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم عن بيوعهم فقالوا: ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم فقال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي أنهم كاذبون، وقال الكلبي: قالت اليهود: الأموال كلها كانت لنا فما في أيدي العرب منها فهو لنا وأنهم ظلمونا وغصبونا فلا إثم علينا في أخذ أموالنا منهم، وأخرج ابن المنذر وغيره عن سعيد بن جبير قال: «لما نزلت {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب} إلى قوله سبحانه: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الاميين سَبِيلٌ} قال النبي صلى الله عليه وسلم:كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر» والجار والمجرور متعلق بيقولون، والمراد يفترون، ويجوز أن يكون حالًا من الكذب مقدمًا عليه، ولم يجوز أبو البقاء تعلقه به لأن الصلة لا تتقدم على الموصول، وأجازه غيره لأنه كالظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره.